الدكتور الصديق حفتر | تغطية شاملة وتحليلات
وقفةٌ مع “المقدِّمة”

بقلم — د. الصدّيق حفتر
هناك كتبٌ نقرأها لمرّةٍ واحدةٍ ثم نهجُرها حينَ تَنتفي الحاجةُ إليها، في حين أنّ هناك نوعًا مِن الكتبِ تُغرينا بالرّجوع إليها، ومِن الكتبِ التي تجتذبني مرّةً بعد مرّة لمعاودةِ النّظرِ فيها “المقدّمة” لابن خلدون. ولا زلتُ أستغربُ كيف لنصٍّ كُتبَ ليكون مقدِّمةً لكتابٍ تاريخيٍّ كبيرٍ أن تُغطّيَ شهرتُه على كلِّ مؤلّفاتِ ابنِ خَلدونَ حتى موسوعته التاريخيّة، بل إذا ذُكِرَتْ كلمةُ “المقدِّمة” وحدَها لا يخطرُ ببالنا سوى “مقدمة ابن خلدون”.
الغريبُ أنّ عبد الرحمن ابن خلدون كتب مقدّمتَه وهو مطارَدٌ منعزِلٌ في قلعةٍ في ظروفٍ صعبةٍ، ومع هذا تفتَّقتْ عبقريّتُه عن أفكارٍ سابقةٍ لعصرِها، أسّستْ لما يُعرفُ بعلمِ الاجتماعِ بمفهومِه الحديثِ قبل الفيلسوفِ الفرنسيِّ أوغست كونت وباعترافِ الغربيّينَ، كما تعرَّضَت “المقدِّمة” لمفاهيمَ اقتصاديةٍ في العملِ والإنتاجِ والتّوزيعِ سبقتْ نظريّاتِ آدم سميث.
أهمُّ ما جاء في مقدِّمةِ ابنِ خلدون كان عن نشوءِ الدّولِ وانهيارِها ومفهومِ العصبيّةِ (الروابط القَبليّة والتّماسك المجتمعي) الذي لم يُسبَقْ إليهِ، وأثرِه في ظهورِ الحضاراتِ الجديدةِ. كما أفردَ ابن خلدون مساحةً واسعةً للحديثِ عن علمِ العِمرانِ الذي يعني به الاجتماعَ البشريّ وما ينشأُ عنه مِن نُظُمٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ واجتماعيةٍ مختلفة، فيبحثُ في آليّاتِه ويراه القوّةَ الدافعةَ للتّطوّرِ الإنسانيّ. ويتجلّى تميّزُ ابنِ خلدون وتمايُزُه عن بقيّةِ المؤرّخينَ في أنّه يُقدِّمُ منهجًا نقديًّا للتاريخِ مبنِيًّا على تمحيصِ الأخبارِ ودراسةِ العواملِ الاجتماعيّةِ والسياسيّةِ، وتأثيرِها في حركةِ التّاريخِ.
هذه الأفكارُ وغيرُها تدفعني لمراجعةِ المقدّمةِ فترةً بعد أُخرى، وفي كلِّ قراءةٍ تتأكّدُ لي فرادةُ ابنِ خلدون وقدرتُه على استباقِ عصرِه. فما أحوجَنا لإعادةِ قراءتِه مِن جديد.
