أخبار ليبيا
دور الإعلام في المصالحة الوطنية: من صناعة الوعي إلى بناء الثقة

في زمن النزاعات والانقسامات الوطنية، يكون الإعلام في قلب المعادلة: إما أن يكون جزءًا من المشكلة، أو رافعة للحلّ، وبين هذين الحدّين، تتحدّد مكانة الإعلام في مسار المصالحة الوطنية، التي تعدّ من أعقد العمليات السياسية والاجتماعية في حياة الشعوب الخارجة من أزمات أو صراعات داخلية.
أولًا: المصالحة الوطنية… ماذا نعني بها؟
المصالحة الوطنية ليست مجرّد توقيع على اتفاق سياسي، بل هي عملية مجتمعية شاملة تهدف إلى معالجة آثار النزاع، ورد الاعتبار للضحايا، وتحقيق العدالة الانتقالية، واستعادة الثقة بين مكوّنات المجتمع، وهي بذلك تتطلّب بيئة حاضنة، يكون الإعلام فيها أحد الركائز الأساسية.
ثانيًا: الإعلام… أكثر من مجرّد ناقل للأخبار
الإعلام لا يكتفي فقط بعرض الأحداث، بل يصوغ الوعي ويؤثّر في المواقف العامّة، وفي سياق المصالحة، يُنتظر منه أن يؤدّي أدوارًا متعددة، من أبرزها:
بناء الرّواية الجامعة
أحد أعقد تحدّيات ما بعد النزاع هو تعدّد السرديات، حيث تتمسّك كلّ جهة بروايتها للأحداث، هنا يظهر دور الإعلام في عرض كلّ الروايات دون تحيّز، وفي الوقت ذاته السعي إلى خلق سردية وطنية موحّدة، تستند إلى الحقائق وتتجنّب الإقصاء.
تسليط الضوء على الضحايا
كثيرًا ما يُهمّش صوت الضحية في خضمّ التنازع السياسي، الإعلام الصادق يعطي لهؤلاء مساحة للكلام، وللرأي العام فرصة لفهم الألم الإنساني الذي خلّفه الصراع.
إتاحة المنابر للحوار
وسائل الإعلام يمكن أن تكون منبرًا مفتوحًا لعرض وجهات النظر المختلفة، شرط أن تُدار هذه المساحات بمهنية عالية تمنع التحريض وتعزز ثقافة الإصغاء.
محاربة خطاب الكراهية
من أخطر ما يهدد المصالحة الوطنية هو استمرار خطاب التحريض والشيطنة والتخوين، وهنا لا بدّ أن يقف الإعلام بوصفه ضامنًا للمسؤولية الأخلاقية، لا مروّجًا لخطابات التقسيم.
ثالثًا: الواقع الإعلامي… هل هو في مستوى التحدّي؟
رغم وجود إعلاميين ومؤسسات أظهروا نضجًا ومسؤولية وطنية، إلّا أنّ الواقع يشير إلى أن البيئة الإعلامية في كثير من الدول الخارجة من نزاع تظلّ منقسمة ومستقطبة. ومن أبرز المظاهر السلبية:
تمويل خارجي أو داخلي مشبوه يؤثّر على استقلالية الخطاب.
استخدام الإعلام كأداة لتصفية الحسابات السياسية.
ضعف التكوين في مجالات “صحافة النزاعات” و”الإعلام الحسّاس للنزاع”.
غياب آليات المراقبة الذاتية وأخلاقيات المهنة.
رابعًا: تجارب ملهمة… هل من دروس؟
تجارب عديدة أثبتت أنّ الإعلام يمكن أن يكون قوّة فاعلة في المصالحة:
في جنوب أفريقيا، لعبت وسائل الإعلام دورًا مهمًّا في دعم عمل لجنة الحقيقة والمصالحة.
في رواندا، بعد كارثة الإبادة، ساهمت إذاعات المجتمع في إعادة بناء جسور الثقة بين الهوتو والتوتسي.
في كولومبيا، تبنّت بعض وسائل الإعلام خطًّا تحريريًّا يركّز على سرد قصص الأمل، والمصالحة المحلية، والضحايا.
هذه النماذج تثبت أنّ الإعلام حين يُدار بمهنية وضمير، يمكنه أن يعيد بناء النسيج المجتمعي المنهار.
خامسًا: نحو إعلام يدعم المصالحة الوطنية
لتمكين الإعلام من أداء دوره البنّاء، يجب:
سنّ تشريعات تكفل حرية الإعلام، وتحميه من الاستغلال السياسي.
إطلاق برامج تدريبية للإعلاميّين في مجال التغطية الحسّاسة للنزاعات.
إشراك الإعلاميين في عمليات العدالة الانتقالية والحوارات الوطنية.
دعم الإعلام المحلي والمجتمعي لقدرته على التأثير المباشر في المجتمعات المتضرّرة.
تعزيز ميثاق شرف إعلامي خاص بفترة المصالحة، يلتزم به الجميع.
سادسًا: الإعلام الجديد… فرصة أو تهديد؟
مع تصاعد دور الإعلام الرقمي ومنصّات التواصل الاجتماعي، بات من الضروري مراقبة هذا الفضاء الذي قد يُستغلّ لنشر الشائعات والكراهية، وفي المقابل، يمكن توظيفه لنشر محتوى هادف، والتواصل المباشر مع الجمهور، وتعزيز ثقافة المشاركة والانفتاح.
خاتمة: الكلمة مسؤولية وطنية
في أزمنة الجراح المفتوحة، تكون الكلمة دواءً أو خنجرًا، والإعلامي الذي يعي حجم التأثير الذي يحمله قلمه أو ميكروفونه، يدرك أنّ دوره لا يتوقّف عند الإبلاغ، بل يمتدّ إلى المساهمة الفعلية في صنع السلام وترميم ما تكسّر.
لذلك، فإن دعم الإعلام الوطني المستقلّ والمهني هو استثمار في مستقبل المصالحة، وفي استقرار الوطن ككلّ
