أخبار ليبيا
قورينا.. أثينا شمال إفريقيا: لقاءُ التاريخِ والأسطورة

بقلم الدكتور الصدّيق خليفة حفتر
في قلبِ الجبلِ الأخضر، حيث تتعانقُ الطبيعة مع الأسطورة، نشأت مدينة شحات – أو “قورينا” كما سمّاها الإغريق – كأنها أثينا أخرى، ولكن في شمال إفريقيا.
في شحات، لم تكن الأعمدة الحجرية مجرد بناء، بل كانت تجسيدًا لروح الإغريق التي عبرت البحر لتستوطن ليبيا. هنا، في هذه المدينة التي نافست أولمبيا وأثينا في عظمتها، ازدهرت الديمقراطية المحلية، وتجلّت عبادة الآلهة في معابد زيوس وأبولو، وتحوّلت الأغورا إلى ملتقى للفلاسفة والتجار. وبينما كانت أثينا تكتب تاريخها في الشمال، كانت شحات تنسج سرديتها الخاصة، لتصبح مرآة الحضارة الإغريقية في الجنوب، وشاهدًا خالدًا على تلاقح الثقافات بين المتوسط والصحراء.
عندما يطلّ الضوء الذهبي لأول مرة على أطلال شحات، تُسدل أعمدة معبد زيوس حجاب الزمن، كأنها أصابعٌ تمتدّ صوب السماء لتلاطف سُحبَ الغسق وتستحضر غضب الإله المقدس.
أسسّها المهاجرون اليونانيون عام 631 قبل الميلاد، لتكون مستعمرة مزدهرة تنقل عبق الحضارة الإغريقية إلى الضفة الجنوبية للمتوسط. لم تكن شحات مجرد نقطة تجارية أو مستوطنة عابرة، بل تحوّلت إلى مركز ثقافي وفلسفي، احتضن المعابد والمسارح والحمامات، واحتفى بالفنون والعلوم، حتى لقّبها المؤرخون بـ”أثينا إفريقيا” لما بلغته من رقيّ فكري وجمالي.
يقع المعبد في شمال شرق ليبيا وترتفع دعائمه القرطبية بحوالي 70 مترًا عرضًا و32 مترًا طولًا، لتؤكد عظمة هندسة الإغريق القدامى في عمارة المكان.
أنشأه اليونانيون الإغريق في منتصف القرن الخامس قبل الميلاد، تحديدًا بين 500 و480 قبل الميلاد، فاتحًا باب الخلود للموروث اليوناني وسط رمال صحراء قرطاجنة التي خطّتها أقدام المستكشفين قديماً.
ما يجعله أكثر ندرةً أنّه من معبدي زيوس الوحيدين المتبقين في العالم، إلى جانب نظيره الشهير في أولمبيا باليونان، فعبر هذين الصرحين وحدهما نسمع أصداء العصور الذهبية لثقافة اُختُزنت في وحي الخير والمحبة الإلهية، ويعتبر معبد زيوس في شحات الأكبر فيهما من حيث المساحة.
هنا بين أركان هذا الصرح المهيب تتلاقى غبار التاريخ ونفحات الأسطورة فتهمس الأعمدة للحاضر بأنّها شاهدةٌ على عظمة الإيمان البشري المتآلف مع صِدى الأبد.
شحات لا تستعرض أطلالًا… بل تكشف عن قلبٍ نابض من التاريخ، لا زال يضيء لمن أراد أن يرى. هنا وُلدت الأسطورة… وهنا، لا تزال تنبض.
